الثلاثاء، 10 مايو 2022

في الحديقة ذكريات وحنين بقلم الشاعر محمد عبد القادر زعرورة

بقلم الشاعر والاديب محمد عبد القادر زعرورة 
..............  في الحَديقَةِ ذِكْرَياتٌ وَحَنينٌ ...............
                                                     .. قصة قصيرة ..
                                                             
... الشاعر الاديب ...
....... محمد عبد القادر زعرورة ...

في اللاذقية المدينة السورية الجميلة المطلة على البحر المتوسط . وفي حديقة جميلة صغيرة تُطلُّ على البحر ،جلستُ أرقُبُ الامواجَ في فصل صيف جميل . جلست على مقعد خشبيٍّ وحدي . انظر للبحر مستمتعا
بنسمات هواءه الرطبة المنعشة في ظلِّ أشجار عتيقةٍ معمِّرةِ استظِلُّ بظلالها الوارفة ... بعد فترة وجيزة لَمَحْتُ امرأة كبيرة في السنِّ ، سيِّدَةٌ أنيقة في بداية العقد الثامن من عمرها ( ٧٢ عاماً ) تدخل الحديقة ، جلسَتْ على المقعد المجاور
لمقعدي ، نَظَرتُ إليها ، لَمَحْتُ فيها ملامحَ الجمالِ أيَّام الصِّبا ، أنيقة الهندام تبدو عليها رفاهيَّةُ العَيشِ والحياةِ .
جلَسَتْ تتأمَّلُ البحرَ بِهُدوءِ ورزانةٍ بَعد أن لفَّت ساقاً على ساقٍ ، أخرجت سيجارةً وأشعَلَتها ، أخذتُ أنظُرُ إليها بين الفَينَةِ والفَينَةِ ، وهي كذلك تجول بنظرِها بأرجاء الحديقةِ الخالية من الضجيج وألعاب الأطفال .فكأنَّ الحديقةَ خُصِّصَت لكبارِ السِّنِّ ومن يريد ان يدخلها بلا أطفالِ .
وحدائق الأطفال تعُجُّ بهم وبالألعابِ الخاصة بهم  .
حديقة هادئة تماماً لا يدخلونها إلا للتَّأمُّل والهدوء والراحة ، للكبار فقط .بعدَ دقائقَ معدودَةٍ دخلَ الحديقَةَ رجلٌ منتصبُ القامة طويلٌ كبيرٌ في منتصف العقد الثامن من عمره ( ٧٥ عاما ) تبدو عليه علامات الدعابة والمرح مع شكله الموحي بالقوة وشظف العيش .مرحٌ وكأنَّهُ لم يغادر مرحلة الشباب بعدُ بيده اليمنى مسبحة يَلوُحُ بها ويُدَندِنُ بأغنيةٍ من أيَّام زمان من الأغاني القديمة لعبد الوهاب ، ربما كان يهواها في شبابه .جلسَ على المقعد المقابلِ للسَّيِّدةِ الكبيرةِ المجاورة لي مباشرةً ، وأخذَ يَنظُرُ إليها نظراتٍ أرابتني وهو يغنِّي ويلوحُ بمسبحته يساراً ويميناً ، كان يغنِّي بصوتٍ هادئٍ ، ينظرُ للسيدةِ ولا يعرفها ويحدِّقُ فيها ويبتسمُ وهو يغنِّي ،
فخُيِّلَ إليَّ أنَّهُ يُغازِلُها ، يرفعُ صوتَهُ حيناً ويخفِضُهُ أحياناً .
رجلُ في منتصف العقد الثامن من عمره يغازلُ سيدةً كبيرة أيضاً يا للغرابةِ !!! وكأنَّني لستُ مَوجودا وأنا شاب في الثلاثينيات من عمري .لم أشاهدَ مثلَ هذا المشهدِ من قبلُ في حياتي ، فقرَّرتُ مراقبتهما هو خاصَّةً ، وأنظرُ إليها لأرىَ ردَّاتِ فعلها على تصرُّفاتِ هذا الرجل العجوز . ينظرُ إليها بإمعانٍ وهي كذلك ،  لا يعرفان بعضهما في هذه اللحظة ، تنظر إليه واجمةً مندهشةً من تصرُّفاتهِ ، وهو في غاية الفرح والمرح واللامبالاة وكأنِّني لستُ موجوداً قربهما .كان يُغنِّي دون أن يُفكِّر مَنْ تكون هذه السيدة المحترمةُ ، لكنها  أخذت تفكِّر لعلها تعرف هذا الرجل الكبير ، تبحثُ في شريط ذكرياتها في عقلها الباطني عنهُ لعلَّها كانت على معرفة به زمن الشباب ، وهو ليس هنا في هذا المجال ، كل همِّه أن ينظرَ إليها ويغنِّي  ، وأنا أشاهد عجباً ، لم يترك أغنية من أغاني أيام زمان إلا وغناها  ، عبد الوهاب ، ام كلثوم ، فيروز ، ناظم الغزالي ، كارم محمود ،  وهو ينظر لها وتنظر لهُ لكنها صامتة مفكرة فقط فيمن يكون هذا الرجل ؟؟؟!!! وفجأَةً أخذ يغنَّي لعبد الحليم حافظ اغنيته الجميلة والمفضَّلةُ لديه في شبابه وهو في الجامعة  جانا الهوى جانا ورمانا الهوى رمانا ورمش الأسمراني شبكنا بالهوى .... 
عندما سمعت السيدة الكبيرة هذه الأغنية عَرِفَتْهُ وعرفت صوته من خلال شريط ذكرياتها فابتسمت ، رآها تبتسمُ سُرَّ بذلكَ ورفع صوته وهو يغنِّي فاتسعت ابتسامتها وازدادت ابتساماً وتورَّدَ وجهُها ، وهنا نشطت ذاكرتهُ من هذه السيدة وكأنَّني أعرف هذه الابتسامة الجميلة ؟؟؟ فأدرك أنها هيَ فصرخ بصوت مرتفع مستغربا الصدفة الرائعة هذه قائلاً زهراءُ ؟؟؟!!!ردَّت عليه بصوتٍ متهدِّجٍ خجلٍ ممدوح ؟؟؟!!! 
نهضَ من مقعده كالصقر متجهاً إليها مصافحاً إيَّاها فصافحته وجلسَ قربها ، وأنا أسمع وأرى ، سألها عن صحتها واطمئنَّ عليها واطمئنَّت عليه ،ثمَّ بادَرها قائلاً : والله يا زهراءُ قد كان قرارُ والدك محقَّاً ومصيباً بزواجكِ من سوايَ ، وانت كما تعرفين كانت ظروفي صعبةً جداً عندما تعرَّفتُ عليكِ وأحبَبنا بعضنا ، كنتُ أنا في السنة الثانية في الجامعة وقد أمضيتُ فيها ثلاثة أعوامٍ وأنتِ في السنة الأولى ، كنتُ أدرسُ وأعملُ لمساعدةِ والدي بمسؤوليات الأسرة وإعالتها ، وقد تخَرَّجْتِ أنتِ وأنا في السنة الثالثة ، فقد كنتُ آخذُ السنة بعامين أو أكثر ، وبعد التخرُّجِ ذهبتُ لخدمةِ العلم ( الخدمة العسكرية الإلزامية ) وامضيتُ ثلاثة أعوام ، وبعد تسريحي من خدمة العلم عُيِّنْتُ مدرِّساً في الأرياف لمادة اللغة العربية  لمدة سنوات ثلاثة ثم انتقلت إلى المدينة وبعدها بأربع اعوام تزوجتُ من ابنة عمِّي فكان زواجي بعد زواجك بأكثرَ من عشرة أعوامٍ ، إذاً كان والدك على حقٍّ في زواجكِ من سواي ، وانجبتُ منها ثلاث شباب وفتاة ، ومنذ خمس سنواتٍ أُصيبتْ بمرضٍ عُضالٍ وانتقلت إلى رحمة الله ، رَدَّت عليه قائلة : رحمها الله تعالى وجعل مثواها الجنة . وهذا الذي سردتَهُ انتَ الآن ما قاله لي والدي وأقنعني به وقد اعلمته هو ووالدتي بأنَّني أحبِّكَ وأريد الزواج منكَ ، ولا يعلم بهذا الأمر سوى أُمِّي وأبي ، وقال لي والدي إن كان يحبِّكِ بصدقٍ يتمنَّىَ لكِ السعادة والهناء ، ولا يقف في طريق سعادتك أبداً ،( وما في القلبِ في القلبِ ، والقلوبُ صناديقٌ مقفلةٌ لا يعلمها إلَّا الله ، وعليكِ الإلتزام والقيام بواجبكِ تجاه زوجك وحاولي أن تنسيه ولا تفكري فيه أبداً )وكان الشاب الذي تقدَّم لخطبتي مهذَّباً ويعمل مهندساً خارج البلاد  ( في بلاد الغرب منذ مدة )  .فوافقت بناءً على رأي والدي ورغبته ، وتزوجتُ وذهبت مع زوجي حيث يعمل ، وكنا نحضر كل ثلاث اعوام مرة إلى البلد  ، وانجبت شابان وفتاة ،الشابان لا يزالان يعملان هناك ( في أمريكا ) والفتاة عادت وزوجها إلى البلد وفتحت عيادة طبية لها ، وتسكن بالقرب من منزلي في إحدى الأحياء الغنية في المدينة . ردَّ عليها قائلاً : ما غبتِ عن بالي وذاكرتي يوماً ، لكن هذا نصيبٌ ، وقد تمنَّيتُ لكِ السعادة والهناء من اعماق قلبي ،خجلت وشكرته قائلةً وأنا كذلك .ثمَّ عادا للحديث عن أيام الشباب والجامعة ، واتفقا ان يكونان صديقان صدوقان ، يلتقيان في الحديقة هذه في الزمان والمكان من كل يوم أحدٍ ، ومَن يتعذَّرُ عليه ذلك فليعلم الآخر ...
ودَّعتهُ وانصرفت غادرت المكان ، وبعد دقائق غادر المكان ، أما انا فقد غادرت الحديقة بعد مغادرته مذهولاً مما سمعت ورأيتُ  وقلت في نفسي صحيح أنَّ الحبَّ الصادق لا يموتُ أبداً وإن هرِمنا  .
وأنَّ القلوب صناديق مقفلةٌ لا يعلمها إلَّا الله  .... فسبحان مقلب القلوب ...

......................................
كُتِبَتْ في / ٥ / ٥ / ٢٠٢٢ /

.... الشاعر الأديب ....
...... محمد عبد القادر زعرورة ....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدر المكنون بقلم الشاعر خالد محمد ابراهيم / سوريا .....

(( الدر المكنون )) راحت تغوص ببحــرها الهـــدار وتصــوغ درّا كامن الأســـــــرار وتفيضُ من درر الكلام عذوبـــة ملأتْ بقــــاع الأرض بالأخبــ...